نقطة اللاعودة- طوفان الأقصى ومستقبل فلسطين المحتلة

المؤلف: د. أحمد أبو الهيجاء11.14.2025
نقطة اللاعودة- طوفان الأقصى ومستقبل فلسطين المحتلة

لا يمكن فهم أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول بشكل كامل دون إلقاء نظرة متفحصة على أفكار فرانتز فانون، كما وردت في كتابه المؤثر "معذّبو الأرض". على الرغم من أن الثورة الجزائرية كانت البؤرة الأساسية لتحليلات فانون، إلا أن رؤاه الثاقبة تجد صدى عميقًا في السياق الفلسطيني. فالاستعمار، في جوهره، يمثل مدرسة فكرية موحدة، وإن اختلفت أساليبها وتكتيكاتها في بعض الأحيان.

يؤكد فانون، المفكر البارز في الثورة الجزائرية، على أن مقاومة عنف الاحتلال بأي وسيلة أخرى غير العنف هو ضرب من العبث. إن "الاستعمار ليس كيانًا عاقلًا أو آلة مفكرة، بل هو عنف جامح لا يلين، ولا يمكن إخضاعه إلا بعنف أشدّ وأقوى".

في كتابه "معذّبو الأرض"، يسلط فانون الضوء على نقطة اللاعودة في العلاقة المتوترة بين المحتل والشعب الرازح تحت نيره. هذه المرحلة المحورية تمثل بداية النهاية، وتمهد الطريق نحو انتصار الشعب المقهور وزوال الاحتلال البغيض.

قد يتعايش الشعب تحت نير الاحتلال الغاشم لعقود مديدة، في صراع مستمر، لكن طبيعة هذا الصراع تظل قابلة للاحتمال، إلى أن تقع أحداث مفصلية تصنع نقطة اللاعودة، بحسب رؤية فانون. يلي هذه النقطة مرحلة عصيبة ومؤلمة للغاية، لكنها تشكل في الوقت نفسه بداية فعلية لمسيرة التحرير.

ما زالت المقاومة الفلسطينية تبذل جهودًا مضنية لإشعال فتيل الأحداث في الضفة الغربية تحديدًا- الفلسطينيون ليسوا فقط في الضفة وغزة- لتحقيق جزء هذا الشرط التاريخي، لكن نتائج عملها متواضعة للغاية

لا يمكن للمرحلة الأخيرة من الاحتلال، تلك التي تمهد الطريق نحو زواله، أن تبدأ قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة في هذه العلاقة المشحونة. في سياق الثورات الشعبية، تعتبر هذه المرحلة بالغة الأهمية، بل هي الأكثر إيلامًا وقسوة من بين جميع مراحل الصراع المرير مع الاحتلال.

في الثورة الجزائرية، على سبيل المثال، وبالرغم من أن الاحتلال الفرنسي للجزائر قد استمر لما يناهز المائة واثنتين وثلاثين سنة، وشهد نضالات طويلة ومريرة، إلا أن نقطة اللاعودة التي أدت في نهاية المطاف إلى دحر الاحتلال الفرنسي، تجسدت في الثورة التي اندلعت بين عامي 1954 و 1962. خلال هذه السنوات السبع وحدها، سقط ما يربو على مليون ونصف المليون شهيد.

في السياق الفلسطيني، تعتبر أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والمعركة الشرسة التي أطلق عليها اسم "طوفان الأقصى"، وما تلاها من جرائم إبادة جماعية تفوق التصور، نقطة اللاعودة الحقيقية في هذا الصراع المستمر. هذه الأحداث ستؤرخ لمرحلة جديدة في طبيعة العلاقات، تفصل بين ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما بعده، كمرحلتين زمنيتين متباينتين.

لقد استوعب المجتمع الصهيوني تمامًا أن معركة "طوفان الأقصى" تمثل نقطة اللاعودة في هذه العلاقة، وهو يدرك تمامًا دلالاتها العميقة، فهو في نهاية المطاف نتاج شرعي للمدرسة الاستعمارية الأوروبية، وبالتالي يعي تمامًا لحظات سطوتها و أوقات انحسارها.

لذلك، سارع إلى تصنيف هذه المعركة، وبشكل واضح وصريح، على أنها تشكل خطرًا وجوديًا على الدولة والكيان الصهيوني. وقد استخدم مصطلح "الخطر الوجودي" مرارًا وتكرارًا خلال الأشهر الماضية، وعلى جميع المستويات، علمًا بأن هذا المصطلح لم يستخدم من قبل لوصف أي مرحلة من مراحل الصراع. ولكن هل يدرك الفلسطينيون حقًا أنهم قد دخلوا مرحلة اللاعودة؟

حركة حماس هي التي هندست نقطة اللاعودة هذه، ومن الواضح من خطابها أنها تعي تمامًا أبعاد ما فعلت. فخطابها الأول بعد عملية العبور وما تلاه يشير بوضوح إلى أنها لم تنفذ مجرد عملية عسكرية واسعة النطاق، أو أنها أساءت تقدير ردة فعل الاحتلال، ولكن الوعي وحده لا يكفي لتحقيق النصر.

من الناحية الموضوعية، فإن حماس وباقي فصائل المقاومة، وإن كانت قد أبدعت في المقاومة في قطاع غزة، إلا أنها لم تنجح حتى الآن في توفير الشروط الموضوعية اللازمة لإنضاج نقطة اللاعودة، بحيث تقود إلى النهايات التاريخية المرجوة، والمتمثلة في انتفاضة شاملة لباقي مكونات الشعب الفلسطيني، واستشعار هويته المشتركة العابرة للحدود الجغرافية، في معركة تحرر وطني شاملة، تؤسس خلال السنوات القادمة لنهاية الاحتلال، وفقًا لمنطق الشرط التاريخي لنقطة اللاعودة الذي عايشته كل ثورات العالم.

ما زالت المقاومة الفلسطينية تبذل جهودًا جبارة لإشعال فتيل الأحداث في الضفة الغربية تحديدًا- الفلسطينيون ليسوا فقط في الضفة وغزة- لتحقيق جزء من هذا الشرط التاريخي، لكن نتائج عملها لا تزال متواضعة إلى حد كبير.

إذ يبدو، وبكل موضوعية وتجرد، أن هندسة المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وطرق حصاره وإحكام السيطرة عليه تتجاوز بكثير حسابات حماس وفصائل المقاومة الأخرى.

وهذه هي الثغرة الجوهرية في شرط التحول والتي لم تتحقق حتى الآن. نقول حتى الآن، لأن الأوضاع فعلًا على حافة الانفجار، وقد يحدث هذا الانفجار ويحقق الشرط التاريخي، بالرغم من التعقيدات الكبيرة التي تحيط بحدوثه بتلك الطريقة.

أما بالنسبة للسلطة الفلسطينية اليوم، فهي منقسمة على نفسها وتحوي ثلاثة اتجاهات متباينة لا يربط بينها أي رابطCommon ground. اتجاه يتمنى، بصدق وإخلاص، أن تنتصر إسرائيل على حركة حماس وتسحقها، للتخلص من خصم يعتبره عدوه الأول، وهذا الاتجاه لا يميز بين الخصومة السياسية والصراع الإستراتيجي المصيري مع الاحتلال.

والاتجاه الثاني يرى أن ما جرى يمثل تحولًا نوعيًا إيجابيًا في الصراع، ويفتح نافذة أمل للمرة الأولى نحو تحقيق إنجاز سياسي، بعد أن وصلت القضية الفلسطينية إلى مرحلة التصفية والإخماد. وبالتالي، لا بد من تبني توجه جديد، وأولى خطواته تحقيق الوحدة الوطنية الشاملة.

والاتجاه الثالث لا يعنيه في الأمر سوى السلامة الذاتية والحفاظ على مصالحه، وألَا يتضرر الجهاز البيروقراطي الضخم للسلطة، وأن تبقى بعيدة كل البعد عن أي ردات فعل مرتبطة بالمعركة الدائرة، والتي قد تهدد وجودها ومستقبلها. وأهم ما في ذلك ألَا تنجر الضفة الغربية إلى موجة صراع مع الاحتلال. يعني ذلك بوضوح أنها تقف في المحور المعطل والمانع لتحقيق هذا الشرط التاريخي.

ما لا تدركه السلطة الفلسطينية، أو أنها تدركه وتتجاهله عمدًا، رغبة منها في عدم دفع استحقاقاته الباهظة، هو أن نقطة اللاعودة قد تحققت بالفعل، سواء كانت المرحلة المقبلة على مقاسات حركة حماس، أو بمقاسات توافقية مع المحور العربي وصفقاته المشبوهة مع الولايات المتحدة الأميركية، وأن من أهم سمات المرحلة المقبلة أن التغيير الطوعي أو القسري قادم إليها لا محالة.

ما يعزز نقطة اللاعودة التي ستمهد الطريق لنهاية الاحتلال في السنوات القادمة، إضافة إلى الإبادة الجماعية بأبشع صورها، هو الإيغال المفرط في التطرف لدى كافة النخب والقيادات في إسرائيل، وهو الأمر الذي سيجعل كل مشروع سياسي تتحدث عنه الولايات المتحدة الأميركية غير قابل للحياة على الإطلاق، وأيًا تكن مواصفاته ومعالمه.

إن الشعب الفلسطيني ليس في فسحة من الوقت لكي يوازن بين البدائل المطروحة. فمن سوء الطالع الذي قد يتحول إلى فرصة سانحة، هو أن جميع الخيارات والبدائل المطروحة على الشعب الفلسطيني تتعلق فقط بماهية وشكل الاستسلام الذليل وتصفية القضية الفلسطينية برمتها، ولا شيء آخر.

وقد تجلى ذلك بوضوح قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول في سرديات قضم الأرض والإنسان ومسار التطبيع المخزي، وتعززت هذه الأمور بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول في سياقات بيع الوهم الأميركي الزائف في المنطقة، وطبيعة التحالف الأميركي الصهيوني المشبوه.

يعني ذلك باختصار شديد أن الحديث عن جدلية إشعال نقطة اللاعودة من عدمها قد تجاوزه الزمن، وأصبح من الماضي، بينما المطلوب بشدة الآن هو أن يتكاتف الكل الفلسطيني حول الهوية الجمعية الجامعة، التي تراكم القوة والمنعة قبل فوات الأوان، لتحويل هذه الحالة الصعبة إلى الفصل الأخير في مسيرة التحرر الطويلة، لا سيما أن كل الشروط الموضوعية مهيأة ومتاحة لتحقيق ذلك.

إن الإسرائيليين والأميركيين يتحدثون بوضوح وصراحة عن أنَّ هذه المعركة ستحدد مستقبل المنطقة لعقود قادمة، فهل يعي الفلسطينيون وداعموهم معنى ذلك حقًا؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة